تلألؤات التلاشى
قصة قصيرة
القصة الفائزة بالمركز الأول
على مستوى الجمهورية ( اسبوع
شباب الجامعات اسيوط 2003)
الشمس لم
يكن لها أدنى تاثير فى رفع حرارة تلك المنطقة وقد اكتفت بأنفاس ذلك النفر فيها
يستكين لتختلط أنظاره بالرمال التى تساوت عدداً مع أشعة الشمس النافذة رغماً بين
التلال القريبة . السراب يملأ المكان كعنقاء فى قصة أسطورية تفرد جناحيها فوق رؤوس
ذلك النفر حتى لا تدرى أن كانت تخفيهم أم تستعد للانقضاض عليهم .
يضع أحدهم
منظاره المقرب قرب عويناته مرتكزاً إلى الصخرة بجواره ..
-
مفيش جديد ؟!
حرك يده
بحركة آلية إلى جسده يتحسس موضع جوفه الفارغ من الطعام منذ ثلاثة أيام مضت .
-
همه سَبُونا هنا كده وخلاص؟!
نظرة
رفيقه إليه كانت كافية لتوسع من الرمال أسفله فيغوص فيها بلا أثر . تتشرب عيناه من
صفرة الرمال كثيراً قبل أن يلفظ له المنظار نقطة سوداء دون السراب على المدى .
-
كتيبة؟
-
لا .. دبابة واحدة !!
-
مفيش غير كام صابع ديناميت .. إيه الحل ؟!!
يتنفس تلك
الصورة فى ذكرياته التى بعثرتها الأيام على رمال الواقع .. ولد تخطته صفة المشاكسة
،حقيبة مثقلة بالكتب هى حِمْلُه كل صباح يعبر الشارع الضيق ما بين الحارة وذلك
الشارع الرئيسى حيث المدرسة لا يستوقفه سوى صبى الحلاق – يزعجه كثيراً منظر
الحقيبة فى يده كثيراً ما آلمته الضربة على عنقه إلا أنه لم يفكر أن يشكو إلى أبيه
. يجرى من أمامه تطمئنه أسوار المدرسة و عم صبحى - حارس المدرسة الكهل- على الدكة
أمامها.
المدرس
يحبه كثيراً يستحسن هندامه وكراسة الواجب خاصته وتلك اللوحة التى يزدان بها الفصل
– كم شكر خطيب أخته كثيراً لما ساعده فيها – قبل أن يبدأ الدرس يشعل المدرس
سيجارته آخذاً منها نفساً عميقاً مع كل سطر جديد ثم يعود لامتصاصه مع الدخان
المتسربل من طرف السيجارة ويأخذ معه آذان وعيون كل الصغار . حين أخبرهم المدرس أن
هناك كلمات يمكنك أن تعرفها لكن لا تستطيع التعبير عن معناها لم يتخيل أنه سيصل
إلى مثل هذه الكلمات أبداً.
فى العودة
يكون صبى الحلاق قد انشغل داخل أكوام الشعر الكثيفة يمر من أمامه بحذر ولا ينسى أن
يلقى نظرة على عم صلاح البقال وتلك الصورة التى يزين بها صدر حانوته الصغير كلما
نظر عم صلاح إلى الصورة رفع يديه إلى السماء يدعو له أن يسدد الله خطاه وينصره .
يكمل الطريق يرفع عينيه ببطء إلى الشرفة المقابلة ،"سعاد" ابنة
الجيران تبتسم كلما رأته عائدا من المدرسة يدارى حيرته بالنظر إلى الساعة التى
أهداها له أبوه فى أول أيامه فى المدرسة الإعدادية .
يوم
استيقظ فوجد نفسه فى هذا الجحر لم يعرف غير أصوات الرعد فوق رؤوسهم وأشباح لأشخاص
كثيرين غيرهم حتى " سعاد" كانت هناك . لم يعرف حتى لم لم يتكلم أو يسأل
أمه عن سبب وجودهم هنا ، اكتفى فقط بدمعه أمه تسقط من عينيها على رأسه تضمه إليها
أكثر .. عندما خرجوا من الجحر كانت معالم الحارة قد تغيرت لم يعد هناك محل الحلاق
ولا عم صلاح البقال ولا حتى منزله حيث حقيبته
لم يكن
الكلام أبداً هو وسيلة تعبيره الرسمية فقط ينظر إلى عيون من حوله حتى تنفجر خلال
أنفاسه مشاعر كثيرة يقتلها صورة الحزن التى طبعت على وجهه من دون أن يشعر. التهجير
كلمة ظل يبحث عن معناها سبع سنوات دون فهم ، لم يعرف غير أنها بلد جديد بلا مدرسة
..اخت كبرى لا تعرف خطيبها إلا من خلال إطار الصورة .. أب ذهب وترك شريطاً أسوداً
على صورته.. وأمه يكاد يصدق حقاً أن دمعتها يوم الجحر لم تجف بعد . الآن فقط عرف
لم كان مظهر حقيبته يزعج صبى الحلاق كثيراً ، عرف لأنه اصبح يزعجه كلما أطل علي
أحدهم يحمل حقيبه مثلها .. وهو ... تحت سيارة .. يصلحها.
واحد
وعشرون ..هو عمره الآن وهو عدد الوظائف التى عمل بها- قبل أن يدسه الزمن أسفل
سيارات البشر- دون أن يعرف من الدنيا معنا للتهجير .
يقف
..تتوضأ الشمس من قطرات عرقه النافرة بإتجاه المدى ..يتحرك مدفع الدبابة بإتجاهه
.. يسرع أكثر .. يقفز بإتجاهها ليحشر جسده الملفوف بالديناميت فى مدخل الدبابة ..
إن كان لم
يعرف بعد معنا للتهجير فأنه اكتفى بامتصاص السبب...
حسين الخياط

تعليقات
إرسال تعليق